يمضي الأبطال في الحياة بمفردهم ولكنهم يتحولون إلى أساطير عندما يضفون قدرا من العظمة على حياتنا ويمسّون شغاف قلوبنا، بالنسبة لعشاق كرة القدم فإن إديسون أرانتيس دي ناسيمنتو المعروف باسم بيليه هو بطل من هؤلاء الأبطال، فالأداءالعالي في أي رياضة هو أن تتجاوز المستوى العادي لباقي اللاعبين، ولكن أداء بيليه تجاوز أداء النجوم العاديين بنفس القدر الذي يتجاوز به هؤلاء النجوم الأداء العادي.
كان بيليه نجم النجوم، يسجل بمعدل هدف في كل مباراة دولية خاضها على مدى أكثر من 19 عاما، بلغ إجمالي أهدافه الرسمية خلال الفترة من 1956 إلى 1974 نحو 1220 هدفا، حصلت البرازيل خلال السنوات التي مارس فيها بيليه الكرة كأس العالم التي تقام كل أربع سنوات ثلاث مرات في غضون 12 عاما، وأحرز خمسة أهداف في مباراة واحدة ست مرات وأربعة أهداف في مباراة واحدة ثلاثين مرة وثلاثة أهداف في مباراة واحدة تسعين مرة. ولم يكن بيليه متعاليا ولا يعيش في برجه العاجي كما يفعل نجوم اليوم ولكنه كان يتمتع بروح المرح والدعابة لدرجة كانت تدفع الفرق المهزومة أمامه إلى مشاركته الفرح والمرح، ولم تكن هذه الفرق تشعر بالخزي عندما تخسر مبارياتها أمام هذا البطل الفذ.
ولد إديسون أرانتيس دي ناسيمنتو المعروف باسم بيليه في مدينة تريس كوراكوس الساحلية الفقيرة في البرازيل، أطلقت عليه عائلته اسم ديكو ولكن أصدقاؤه في لعب الكرة أطلقوا عليه اسم بيليه وهي الكلمة التي التصقت به بعد ذلك.
جاء اكتشاف ديكو كموهبة كروية عندما كان في الحادية عشرة من عمره على يد اللاعب البرازيلي والديمار دي بريتو، وبعد أربع سنوات أحضر دي بريتو بيليه إلى مدينة ساوباولو البرازيلية ليعلن أمام مديري فريق الكرة الأول لنادي سانتوس البرازيلي الذين لم يكونوا يصدقون أحاديثه عن الفتى الذهبي أن هذا الولد سيكون أعظم لاعب كرة قدم في العالم. وبدأ النجم بيليه يصعد بسرعة الصاروخ حيث حصل في الموسم التالي على لقب أفضل لاعب في الدوري البرازيلي، وفي عام 1967 اشتهر بيليه بسبب وقفه للحرب في نيجيريا التي كانت تخوض في هذا الوقت حربا أهلية ولكن الأطراف المتحاربة قررت وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة من أجل بيليه الذي حضر ليشارك في مباراة استعراضية في العاصمة النيجيرية لاجوس في ذلك الوقت.
وأعتقد أنه لكي تفهم دور بيليه في لعبة كرة القدم عليك أن تعرف بداية طبيعة اللعبة، والحقيقة أنه لا توجد أي لعبة رياضية تتمتع بالشعبية والحماس الذي تتمتع به كرة القدم، ففي مباريات كأس العالم تتحدد برامج حياة شعوب العالم على اساس جدول مباريات فرقها الوطنية المشاركة في هذه البطولة العالمية التي تقام كل أربع سنوات. وقد حضرت عشاء مع عدد من أعضاء الحكومة البريطانية وضيوف كبار من كل أنحاء العالم في سبنسر هاوس بلندن أثناء مباريات كأس العالم قبل الماضية التي استضافتها فرنسا، ولكن لسوء حظ المضيفين البريطانيين فقد اختاروا لهذه الدعوة على العشاء ليلة مباراة كرة القدم بين الأرجنتين وإنجلترا، فمثل هذه المباريات بين إنجلترا والأرجنتين سرعان ما تتحول إلى ما يشبه المعركة العسكرية وتعيد للأذهان ذكرى حرب الفوكلاند بين البريطانيين والأرجنتينيين خلال ثمانينيات القرن الماضي.
وقد أصر أغلب الموجودين في المكان أو على الأقل بالدرجة التي أثرت على المضيفين على وضع أجهزة التلفزيون في أماكن استراتيجية بالقاعة التي شهدت الاستقبال والعشاء خلال كل من الاستقبال والعشاء، ولكن المباراة امتدت لوقت إضافي ثم ركلات الترجيح من نقطة الجزاء بعد ذلك الأمر الذي جعل المتحدث الرئيسي يؤجل إلقاء كلمته في هذه الليلة إلى ما بعد الحادية عشرة مساء، ولما كانت إنجلترا قد خسرت المباراة فلم يكن أغلب الحضور في حالة تسمح لهم بعمل أي شيء سوى الحداد والحزن، وعندما فازت فرنسا بكأس العالم عام 1998 اكتست العاصمة الفرنسية باريس بأجواء المرح والاحتفالات لمدة 48 ساعة متواصلة، وهو نفس الأمر الذي عشته بنفسي من قبل في البرازيل عام 1962 عندما فاز فريقها الوطني بكأس العالم التي أقيمت في تلك السنة في دولة شيلي، فقد توقفت الحياة تماما في كل أنحاء البرازيل لمدة يومين حتى أقيم الحفل الختامي لهذا الكرنفال في العاصمة القديمة للبلاد ريو دي جانيرو، والحقيقة أن مثل هذا الأمر لا يمكن مقارنته مع مايحدث في الولايات المتحدة التي لها رياضاتها الشعبية الخاصة بها والتي تتطلب مهارات مختلفة تماما عن تلك التي يعرفها عشاق كرة القدم في العالم، فمثلا رياضة البيسبول التي تعد الرياضة الأولى في أمريكا تتطلب من لاعبها القدرة على ضرب الكرة بالمضرب لتصل سرعتها إلى أكثر من 90 ميلاً في الساعة في المقابل فإن لاعب الفريق الآخر مطالب بالتقاط هذه الكرة التي تطير بسرعة الرصاصة تقريبا.
وحتى كرة القدم الأمريكية تحتاج إلى مهارات خاصة بتمركز اللاعبين الأحد عشر في الملعب، لذلك فعندما يشاهد الجمهور الأمريكي هذه المباريات فأنه يركز على عمل حسابات وإحصائيات حول حركة الكرة وحركة اللاعبين فهذا الجمهور يريد لفريقه الفوز ولكنه في نفس الوقت يريد لنجمه المفضل في الفريق تحقيق أفضل أداء رقمي من حيث سرعة العدو أو قوة قذف الكرة. كما أن كرة القدم الأمريكية والبيسبول تحتاج إلى أدوات عديدة سواء في الملاعب أو للاعبين على عكس كرة القدم التي لا تحتاج إلى أكثر من حذاء رياضي، ويمكن لأي إنسان أن يعتقد أنه لاعب كرة قدم كما يمكن ممارستها بأي عدد من اللاعبين. لذلك فإن كرة القدم خارج أمريكا هي اللعبة الشعبية الأولى التي تتميز بإثارتها ونتائجها المفاجأة حيث يمكن أن يتحقق الفوز في أي لحظة من المباراة.
ويمكن باختصار القول بأن البيسبول وكرة القدم الأمريكية هي شعور بالخبرة الإنسانية ولكن كرة القدم هي تجسيد لهذه الخبرة الإنسانية، لذلك فإن بيليه ظاهرة مختلفة عن أي نجم من نجوم البيسبول وكرة القدم الأمريكية، فنجوم كرة القدم يعتمدون على باقي أعضاء فريقهم حتى لو تجاوزوا هؤلاء الأعضاء في المهارة والنجومية، ولكي تحقق نجومية أسطورية كلاعب لكرة القدم فستواجه صعوبة شديدة جدا لأن أي لاعب في كرة القدم لا يستطيع الحفاظ على قمة أدائه لمدة تزيد عن خمس سنوات على الأكثر بصفة عامة، وقليل جدا من هؤلاء اللاعبين الذين تمكنوا من المحافظة على أدائهم أكثر من هذه السنوات. ولكن بيليه المعجزة حافظ على أدائه الرفيع المستوى لمدة 18 عاما، ففي عامه السابع عشر في الملاعب وكان موسم 1973 سجل بيليه 52 هدفا، في حين لم يستطع أي من النجوم المعاصرين له تسجيل 50 هدفا في أي موسم، ولكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لبيليه الذي كان يسجل مائة هدف في الموسم الواحد حيث اعتبر تسجيل52 هدفا مؤشرا على ضرورة اعتزال الملاعب.
وقد ساعدت الطريقة التي جسد بها بيليه شخصية الفريق القومي للبرازيل في تكوين مكانته الاسطورية في عالم كرة القدم، فقد حافظ بيليه ورفاقه على الطابع المرح للفريق البرازيلي حيث كان لاعبو البرازيل أكثر لاعبي كرة القدم في العالم قدرة على أداء المهارات الاستعراضية إذا لم يكونوا الأفضل دائما في هذا المجال حيث تلعب فرق البرازيل بحماس ينتقل بين اللاعبين والجمهور كما تنتقل العدوى، فعندما ينزل الفريق البرازيلي إلى أرض الملعب بقمصانه الصفراء يتمايل الجمهور في المدرجات على أنغام السامبا بعد أن جعل البرازيليون كرة القدم لعبة الرشاقة والمهارة، وفي أيام بيليه كان البرازيليون ينظرون إلى كرة القدم باعتبارها نوعا من السحر، وقد شاهدت بيليه في قمة مجده مرة واحدة في نهائي كأس العالم عام 1970 أمام فريق إيطاليا الذي لعب مباراة دفاعية بحتة، وقد ساعدهم التعادل المفاجئ مع البرازيل 1/1 في محاولة التشبث بهذا التعادل أمام البرازيليين الذين بدأوا يفقدون السيطرة على المباراة، وقد كان من الممكن التغلب على دفاع إيطاليا بسهولة بسبب الأخطاء التي بدأ الفريق البرازيلي يقع فيها بسبب تسرعه، ولكن البرازيليين بقيادة بيليه بدأوا ينظمون صفوفهم ويلعبون وكأنهم أمام فريق كامل ومتكامل حتى نجحوا في التقدم على الإيطاليين 4/1، وقد شاهدت بيليه بعد ذلك عدة مرات عندما كان يلعب في صفوف فريق نيويورك كوزموس الأمريكي، ولم يكن بنفس سرعته لكنه كان بنفس مهارته، والأن أصبح بيليه مؤسسة متحركة.
فأغلب جهمور كرة القدم حاليا لم يشاهد بيليه وهو يلعب ومع ذلك يعتبره جزءاً مهماً من حياته، فقد تحول بيليه من نجم فوق العادة إلى أسطورة.